منتدى راس العيون
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجوا منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه
منتدى راس العيون
مرحبا بك عزيزي الزائر. المرجوا منك أن تعرّف بنفسك و تدخل المنتدى معنا. إن لم يكن لديك حساب بعد, نتشرف بدعوتك لإنشائه
منتدى راس العيون
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى راس العيون

راس العيون
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» عضو جديد في المنتدى
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2012-07-27, 14:20 من طرف abdo0898

» التدفئة بالماء الساخن
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2012-01-23, 14:27 من طرف سهيل

» نموذج عريضة افتتاح دعوى
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-08-31, 23:59 من طرف kamel.6

» [b]دروس السنة الثانية قانون عام[/b]
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-08-01, 14:12 من طرف kamel.6

» الفرق بين النظام الرئاسي و البرلماني
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-08-01, 14:08 من طرف kamel.6

» أريد التعرف على شخص من راس العيون -باتنة- مهم جدا جدا
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-05-09, 17:33 من طرف king

» عندما تلهو الرأسمالية بالقوى الكادحة
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-04-22, 10:18 من طرف phyali

» les crépe
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-04-08, 16:33 من طرف minachaouia

» الزوجة الثانية
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2011-04-08, 16:22 من طرف minachaouia

الإبحار
 البوابة
 الفهرس
 قائمة الاعضاء
 البيانات الشخصية
 س .و .ج
 ابحـث
منتدى
التبادل الاعلاني

 

 كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
king
DR
DR
king


عدد المساهمات : 340
تاريخ التسجيل : 18/06/2008

كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty
مُساهمةموضوع: كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟   كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟ Empty2010-03-14, 19:38

كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟
مقال في نقد نظرية العروي عن الأيديولوجيا والأدب في المجتمع العربي المعاصر


كتاب العروي"الأيديولوجيا العربية المعاصرة"هو إحدى المحاولات القليلة التي حاولت تقديم تحليل لتكون الأيديولوجيا المعاصرة لا كأيديولوجيا انبثقت بصورة تلقائية بفعل عوامل داخلية صرفة لتعبرعن المجتمع العربي الراهن بل كنتيجة لاستيراد عناصر فكرية غربية وهو لا يريد من هذا-كما سنرى- أن يستنتج أي استنتاجات تدعم مطالب أنصار الأصالة وانتقاداتهم على الفكر والأدب والفن في الوطن العربي المعاصر وبالعكس.

وبسبب أهمية هذه الأطروحات رأيت أن أكرس للكتاب هذا المقال الذي أناقش فيه فقط جانبين من الجوانب الأربعة التي يدرسها.هو يدرس نظرة العرب إلى الذات وإلى التاريخ وإلى المنهج الفكري الملائم وإلى الصيغ التعبيرية أو الأشكال الأدبية التي تطابق المرحلة الراهنة.هو يقول أن نظرة العرب إلى الذات هي الوجه الثاني من نظرتهم إلى الآخر الذي هو الغرب وعلى أساس هاتين النظرتين المترابطتين تنبني الأيديولوجيا العربية المعاصرة.ونظرية العروي في الأيديولوجيا العربية المعاصرة هي موضوع الجزء الأول من هذا المقال وأما الجزء الثاني فموضوعه نظرية العروي عن مسألة الأشكال التعبيرية المطابقة للمرحلة.

1-هل الأيديولوجيا العربية المعاصرة نتاج لحالة خاصة من حالات التثاقف؟

ملاحظات على نظرية العروي في الأيديولوجيا العربية المعاصرة

أولاً-تمهيد عام:عن العروي "المستمر على خطه":

يقول ياسين الحافظ في نهاية المقال الذي أراد فيه أن يؤرخ لتطور وعيه السياسي الأيديولوجي وسماه "تاريخ وعي أو سيرة ذاتية أيديولوجية-سياسية" متحدثاً عن الدرجة الأخيرة التي "صعدها" في سلم هذا التطور: "العامل الأكثر أهمية في هذه المحطة من تطور وعيي الأيديولوجي- السياسي كان كتابات عبد الله العروي، وتحديداً "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" و "العرب والفكر التاريخي" (...) العروي الذي ساعدني (وأقول هذا بكل تواضع) على وعي البعد التاريخي للواقع العربي، والذي شد نظري إلى دور الأيديولوجيا السلفية في عرقلة التقدم العربي والذي أكد على ضرورة انسجام المناهج مع الأهداف، العروي هذا أعطى منظوراتي القومية الديمقراطية كل اتساقها وتكاملها وثبت بعديها التاريخي والكوني".[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][1]

واضح من هذا الاستشهاد أثر العروي على شريحة من مثقفي المشرق جمعوا بين القومية والماركسية في البدء وإلى هذا الحد لم يكن هناك شيء جديد فقد كان هذا الجمع مألوفاً كما يعلم كل متابع لمجريات تلك الحقبة (الستينات والنصف الأول من السبعينات) أما الأمر الذي امتازوا به لاحقاً على رفاق الفكر فكان التأكيد على دور النخبة المثقفة في تحديث وعيها ثم في نقل هذه الحداثة إلى المجتمع كشرط أساسي لكل برنامج تقدمي يريد النجاح.

وقد تولى ياسين الحافظ هذه الدعوة وأسس "حزب العمال الثوري العربي" وهو اسم مجلجل فخم لمجموعة صغيرة من المثقفين المنعزلين الذين ظلوا على هامش السياسة المشرقية في السبعينات وما بعدها ولم أزل منذ تأسيس هذا "الحزب" إلى الآن استغرب كيف أقدم الأستاذ الحافظ على وضع مثل هذا الاسم (أو الرضا عنه إن لم يكن هو الذي وضعه) متناقضاً مع ما عرف عنه من زهد في الألقاب الثورية الفخمة ومن حديث دائم عن ضرورة الاهتمام بالمضمون الواقعي للسياسة الممارسة وليس بالشعارات والتسميات البراقة التي ترافقها.

صدرت الترجمة العربية لكتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" في بيروت في تلك الحقبة الفكرية الصاخبة التي تلت هزيمة 67 وتلتها على الأثر ترجمة لكتاب "العرب والفكر التاريخي" وتجاوز تأثير هذين الكتابين حلقة الحافظ الضيقة فقد كانت الساحة يومها متعطشة لكل كتاب جديد يريد أن يلقي الضوء أو يبدو كأنه يلقي الضوء على الأسباب العميقة للهزيمة العربية الأليمة وقد رأينا يومها "التشخيصات" لهذه الأسباب تنهال من كل حدب وصوب فمن صادق العظم و"النقد الذاتي بعد الهزيمة" إلى القرضاوي وكتابه "درس النكبة الثانية" إلى غيرهما ومن الطريف أن أذكر هنا أن أسلوب الأستاذ العروي الذي لا يخلو من الصعوبة مضافاً إليه سوء الترجمة الذي أفرد له العروي ذاته تعليقاً مستفيضاً في الطبعة الأولى غير المترجمة المصاغة صياغة جديدة التي صدرت عام 1995[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][2] لم يحل دون تأثير الكتابين تأثيراً واسعاً نسبياً فقد أصبح الأستاذ العروي مشهوراً في ساحتنا الثقافية شهرة لعلها ترضي إخواننا المغاربة الذين كان بعضهم حتى وقت قريب يتهمنا نحن المشارقة بتجاهل النتاجات الفكرية والأدبية المغربية.[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][3] ولعل في هذا التأثير مع صعوبة الفهم وأحياناً مع سوء الفهم كما يعلمنا العروي نفسه في المكان الذي أشرنا إليه عبرة هامة لمن يريد البحث في آليات ظهور الأفكار وتأثيرها في الساحة الثقافية لمجتمع ما ومما ينتج عن هذه الواقعة أن هذا التأثير يتعلق بحاجات هذه الساحة أكثر مما يتعلق بفهم المنظومات الفكرية المستعارة أو بقدرتها على الإقناع(حين يقرأ المرء مؤلفات الحافظ يجد أن كتاب "العرب والفكر التاريخي"أثر به أكثر من كتاب :الأيديولوجيا.."وكتاب "العرب.." أبسط وأكثر عدوانية واستفزازاً ودفاعاً عن النزعة البراغماتية في وجه دعوات الأصالة أو حتى مجرد دعوات التمهل في أخذ العناصر الحضارية الأوروبية).

وما دام العروي قد أعاد اصدار الكتاب عام 1995 فإن لنا أن نستنتج أنه ما زال على آرائه القديمة وهو يؤكد هذا بالفعل في هوامشه التي وضعها على الطبعة الجديدة غير المترجمة كما فهمنا فهو ماينفك في هذه الهوامش يؤكد أن التغيرات في العالم وفي الوطن العربي أكدت صحة ما ورد في الكتاب من وجهات نظر.

لغة الأستاذ العروي العربية سيئة جداً مع الأسف وقد كنت رأيت ذلك قديماً عندما قرأت روايته "الغربة واليتيم" فاكتشفت أنه حتى لو كتب بالعربية فإن كتابته "الأصلية" لن تكون أحسن حالاً من كتابته المترجمة وما كنت لأذكر هذه الملاحظة لو أنه أولاً لا يدبج في المقدمة المذكورة آنفاً صفحات طوالاً من المواعظ في ضرورة إجادة اللغة العربية لمن يترجم ولو أنه ثانياً لا يرتكب أخطاء فادحة في ترجمة المفاهيم الفرنسية ترجمة متحذلقة- لا أجد مع الأسف وصفاً أحسن لهذه الترجمة- فكل عارف باللغة العربية سيستغرب ترجمة المفهوم Humanism بكلمة "المروءة" ذات المعنى المحدد والتي لا يمكن أن يسمح بتغيير معناها لأنها في غاية الأهمية في النظام الأخلاقي العربي وقد ظن أن مجرد اشتقاقها الذي قرأه عند اللغويين من "مرء" يكفي لإعطائه الحق بهذه الترجمة وليس الأمر كذلك فهو بالتأكيد يعرف معنى الكلمة الغربية ولكن أشك شكأ شديداً جداً معززاً بقراءاتي لكتبه الأخرى في أنه يعرف حقاً كل ظلال معنى كلمة "مروءة" العربية كما استعملت عبر التاريخ وباختصار لا علاقة بين المعنيين وقد كان من الأحسن له أن يستعمل الترجمة الذائعة "إنسانوية".

ومثل هذا في السوء أنه ينعى على مترجميه العرب كونهم ترجموا العناوين العربية عن الفرنسية بدون العودة إلى الأصل العربي أحدهم مثلاً كما يقول هو ترجم عنوان رواية هيكل "هكذا خلقت" بالشكل "هي هكذا"، حسناً.. الأستاذ العروي وفي الطبعة الجديدة غير المترجمة من الكتاب يسمي مجموعة نجيب محفوظ"دنيا الله" بهذا الاسم"أرض الله"-انظر ص247 من "الأيديولوجيا.."- الذي ينم على أنه استند إلى ترجمة ولم يستند إلى الأصل تماماً كما فعل المترجمون الذين ذمهم! و يسمي حزب لطفي السيد "الحزب الوطني" وهذا الخطأ هو من أقبح الأخطاء فليس الأمر فقط أن العروي ارتكب نفس الإثم الذي عابه على مترجمه فترجم الترجمة الفرنسية للاسم وإنما هو أيضاً خلط بهذه الترجمة الحرفية التي لم يكلف نفسه فيها عناء العودة إلى أي مرجع ميسر عن لطفي السيد أو عن الحركات السياسية والفكرية في مصر مطلع القرن العشرين ليرى أن الاسم الصحيح هو "حزب الأمة" أقول: خلط بهذا فوضع لحزب السيد اسم الحزب الألد عداء له والنقيض التام لتوجهه الفكري والسياسي وهو "الحزب الوطني" الذي أسسه مصطفى كامل وقاده فيما بعد محمد فريد وهو مع هذا الخطأ يخطئ في التاريخ فيخبرنا(ص52)أن" لطفي السيد تولى قبيل الحرب العالمية الثانية إدارة لسان حال الحزب الوطني" على حين أن الصواب هو أن لطفي السيد تولى تأسيس وإدارة "الجريدة"لسان حال حزب الأمة قبيل الحرب العالمية الأولى .

وقد تساءلت مراراً وأنا أقرأ مؤلفات الأستاذ العروي التي يبدي فيها بكل جرأة آراء وتفسيرات وتقويمات للمؤلفات العربية القديمة:"هل العروي يا ترى قرأ هذه المؤلفات أم قرأ ترجمات فرنسية لها؟" والمسألة تبقى معلقة حتى يجيب عليها الأستاذ العروي بنفسه والعبد الفقير على الأفل سيقبل هذه الإجابة إن شاء الله والذي أميل إليه الآن هو الإجابة المزدوجة فهو قرأ بعضاً بلغته الأصلية وبعضاً عبر الوساطة الفرنسية التي تجعل من معلوماته في أحيان كثيرة حتى في الأمور التي تخص التاريخ العربي المعاصر بعيدة عن الدقة بل مغلوطة أحياناً.

قد يؤون الأوان ونبرهن بتوسع أنه ما من مفهوم من مفاهيم الأخلاق الكبرى أمثال "المروءة""الشرف""الكرم""الحزم"إلى آخره يمكن للمعاصرين فهم ما كان أسلافنا يعنونه به بدون تدريب طويل في قراءة نصوص التراث. ولفهم هذه المفاهيم لا يكفي لا مجرد الاستعانة الساذجة بمعانيها المعاصرة ولا حتى الاستعانة بالمعاجم القديمة بل يجب "استبطان" أو "تشرب" مفاهيم هذه الكلمات وظلالها عبر العشرة الطويلة مع سياقاتها والبحث في مجمل البيئة التي رافقت استعمالها وهكذا فقط "قد"،ولا أجد بداً من التركيز على هذه "القد" المتشككة، قد يمكن فهم ما كان أسلافنا يعنونه بها-في حالة مصطلح "المروءة"ابتعد العروي حتى عن المفهوم المستعمل حالياً ولا أجد مفراً والحال هذه من السؤال عن اللغة التي يستعملها العروي في حياته اليومية:أهي الفرنسية؟ وهذا السؤال لا أسوقه طبعاً من باب الاصطياد في الماء العكر بل من باب التساؤل عن جرأة العروي غير المبررة في الكلام الواثق عن مفاهيم عربية لا يمكن لمن كانت لغته الأم فرنسية فهمها!.

هذه حالة من حالات "نظرية التواصل" أي حالة التواصل مع نصوص التاريخ وسنرى حالاً أن الأستاذ العروي إن كان قد أبدى استخفافاًً لا يليق به بالتغير الدلالي للمفاهيم عبر التاريخ فإنه كان أذكى بكثير حينما رفض اعتقاد أهل الحداثة والإنسانويين الأصلاء والإنسانويين الدخلاء أيضاً الساذج بالفعالية الآلية والتلقائية لما يسمى "التثاقف بين المجتمعات"(وبالإنسانويين الدخلاء أعني أساساً بعض الأفراد عندنا ممن ليس لديهم من المذهب الإنسانوي إلا كراهيتهم لهويتنا الثقافية الخاصة التي تدفعهم لرفع شعار الإنسانوية في وجه التيار التأصيلي).

ثانياً: في نظرية العروي عن الأيديولوجيا العربية المعاصرة: هل الأيديولوجيا العربية المعاصرة نتاج لحالة خاصة من حالات التثاقف؟

يخبرنا العروي (ص32) أن من أهداف كتابه البحث في "شكل الاتصال بين ثقافتين مختلفتين" وهذه صيغة عامة للمسألة كما يرى القارئ قد تنبئنا لو أخذت على حدة أن العروي يريد بحث نظرية التثاقف عموماً غير أننا في هذا الكتاب لا نجد إلا بحثاً في حالة خاصة من حالات التثاقف هي حالة "اتصال بين ثقافتين مختلفتين" هما الثقافة العربية والثقافة الغربية. نرجو من القارئ أن يتابع الروح التجريدية التي يقرأ بها سطورنا هذه فيتغافل عن التدقيق في مفهومي "الثقافة الغربية" و "الثقافة العربية" فلا يسألنا مثلاً عن التخوم المكانية والزمانية التي تجزئ كلاً من هاتين الثقافتين.

وفي الحقيقة فإن هذه الحالة هي بعد "أخص من الخاصة" إذ أن العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية كما تبدو في كتاب العروي، وكما هي في الواقع أيضاً، ليست هي حالة تأثير وتأثر فكل من الطرفين يؤثر في الآخر ويتأثر به (كما يوحي لنا مصطلح "تثاقف") بل هي حالة تأثير فقط من طرف الغرب وتأثر فقط من طرف العرب والعروي في النهاية لا "يقر بذلك" فقط بل "يقر ذلك" أيضاً بل إنه يعد ذلك طبيعياً بل حتمياً وهو لا ينفك يذكرنا بأن "دعوة الأصالة فارغة من كل مضمون" وحين يوصلنا العروي إلى الهدف النهائي الذي يجب أن نسعى إليه وهو ما يدعوه "العقل الكوني" يقول بكل جرأة "مهما ظهر للبعض هذا المفهوم للعقل الكوني هزيلاً عقيماً فإنه في نهاية المطاف أكثر عطاء من الدعوة إلى المخالفة والتميز، حتى وإن وعدت بما لا عين رأت.. في عالم الأحلام!" (ص203 إشارة التعجب وردت في الأصل)

قبل أن نبدأ بعرض نظرية العروي عن الأيديولوجيا العربية المعاصرة والتعليق عليها نرى أن نشرح أولاً ما نعنيه بقولنا إن نظرية التثاقف هي جزء أو حالة خاصة من نظرية التواصل ونعني بهذه الأخيرة النظرية التي تبحث في العوامل التي تحدد طبيعة المعلومات التي يتلقاها كل طرف من الأطراف التي تتبادل المعلومات.

لا يعتبر التواصل أمراً واحداً فهو يتغير مع تغير أطرافه إذ أن نفس المعلومات التي يريد المعلم نقلها إلى الطلاب تستقبل بصورة مختلفة عند كل طالب وكلما زاد الاختلاف في التجربة وفي اللغة ازداد الخطأ في النقل وهذا ما يصعّب التفاهم بين الكبار والصغار وبين الناس من مجتمعات مختلفة بل يمكن أن نقول بوجه عام أن عملية التواصل لا تكون مطلقة النجاح أبداً فنحن والحالة هذه نعتبر أن سوء الفهم (أو سوء التفاهم) هو القاعدة التي يجب أن ننطلق منها في محاولة للتصحيح المتتالي لأخطاء عملية التواصل.

لنأت الآن إلى التثاقف بما هونتيجة عملية تواصل بين مجتمعين مختلفين وفيها نرى تحولاً في المعلومات التي أخذها المجتمع س من المجتمع ع ولا تخضع كمية المعلومات التي يأخذها مجتمع من الاخر ولا نوعها ولا التغير الحادث فيها إلى عامل الصدفة وحسب فثمة قوانين محددة تسير هذه العملية.

يقول العروي: "عندما يتصل مجتمع ما بآخر فإن التماس بمعناه المادي البسيط لا يهم في شيء إذ قد يحصل أن أحد المجتمعين المتماسين يرفض بكل بساطة أن يرى الآخر. المهم في مثل هذه الحال هو أن نحدد بالضبط ماذا يستطيع كل مجتمع أن يدرك من الآخر. عندما تعرف العرب على الغرب كان هذا الأخير قد قطع أشواطاً كبيرة في معرفة ذاته، ومع ذلك اضطر العرب أن يبدؤوا من البداية. وكانت معرفة العرب للغرب تتسع وتتعمق بقدر ما كان المجتمع العربي يزداد تمايزاً في مبناه الاجتماعي. هذا أمر بديهي وهو بالضبط ما لا يظهر في التحليلات الرائجة اليوم حول ما يسمى بالمثاقفة. تفترض هذه التحليلات خطأ أن المجتمعات شفافة سهلة الفهم والتأثر والتأثير" (ص61).

لنتذكر قول العروي عن الغرب"الذي كان قد قطع أشواطاً كبيرة في معرفة ذاته حين تعرف عليه العرب" فلنا عليها تعليق يأتي في حينه إن شاء الله.

نلاحظ هنا تميز العروي عن الماركسيين العرب المعتادين وعن دعاة الحداثة وأنصار التثاقف: خلافاً للأولين هو يطرح موضوع التثاقف كحقيقة مهمة في تفسير "البنية الفوقية"- التركيبة الاجتماعية العربية على حين انهم عودونا على تبني نظرية ميكانيكية للعلاقة بين "البنية التحتية" و "البنية الفوقية" ترى تلازماً حتمياً بين البنيتين يجعل من كل حديث عن قوانين خاصة "بالبنية الفوقية" أي الفكر والقانون والفن إلى آخره حديثاً نافلاً.

وأما دعاة الحداثة وأنصار التثاقف فإنهم هم بالذات من يؤكدون أن "المجتمعات شفافة سهلة الفهم والتأثر والتأثير" .

إنها لميزة قيمة من مزايا العروي غير أنه حين يشرع في محاولة إيضاح القانون الذي حدد سيرورة "التثاقف" التي قادت إلى تكوين الأيديولوجيا العربية المعاصرة عاد إلى النظرية المادية التاريخية بل إلى شكلها الوضعي الذي لا يزيد في منهجه التبسيطي شيئاً كثيراً على منهج أوغست كونت و"حالاته الثلاث" وبحتمية صارمة ما فيها ولا ذرة واحدة من الروح النقدية المفترضة في شخصية مرموقة من شخصيات الفلسفة العربية المعاصرة مثل الأستاذ العروي.

نظرية الأستاذ العروي عن الأيديولوجيا العربية المعاصرة تقول ببساطة إن هذه الأيديولوجيا تكونت تحت تأثير عامل واحد لا أكثر ولا أقل هو المواجهة مع الغرب وثمة لحظات ثلاث في هذه الأيديولوجيا اللحظة الأولى هي لحظة "الشيخ" وكنموذج له يأخذ العروي محمد عبده و"الشيخ" يرى السر في تقدم الغرب هوتقديمه للعقل وتخلص دينه من خرافات الكنيسة ولذلك هو يرى أن السر في تخلف الشرق هو ما ورثه من خرافات شابت العقيدة الإسلامية الصحيحة التي رفعت من شأن العقل (لعل هذا ما جعل عبده يقول إنه رأى في أوروبا إسلاماً ولم ير مسلمين على حين رأى عندنا مسلمين ولم ير إسلاماً)

وفي اللحظة الثانية يتقدم إلى الساحة "اللبرالي" (وكنموذج عنه يأخذ العروي لطفي السيد) وهو يرى أن سر تقدم الغرب هو الديمقراطية البرلمانية بينما سر تأخرنا هو الاستبداد.

ويأتي ثالثاُ "التقني" وسلامة موسى هو الذي يمثله وهو يرى أن سر تقدم الغرب هو الصناعة والقوة المادية.

العروي يرى أن هذه اللحظات الثلاث ما هي إلا مراحل ثلاث من تطور الغرب وحين تتصدى الأيديولوجيا العربية إلى زرعها في المجتمع العربي فإنها لا تفعل أكثر من تشكيل المجتمع بالتدريج على صورة المجتمع الآخر.

يقول العروي أنه يستعمل مصطلح "الأيديولوجيا" أو "الأدلوجة" بثلاثة معان: أولاً: بمعنى ما ينعكس في الذهن من أحوال الواقع محرفاً بتأثير لا واع من المفاهيم المستعملة. ثانياً: بمعنى النسق الفكري الذي يستهدف حجب الواقع الذي يصعب أو يمتنع تحليله. ثالثاً: وهذا المفهوم كما يقول هو الذي يستعمله في الكتاب بكثرة "الأيديولوجيا هي نظرية مستعارة لم تتجسد بعد كلياً في المجتمع الذي استعارها لكنها تتغلل فيه أكثر فأكثر. فهي تلعب دور الأنموذج الذهني الذي يسهل عملية التجسيد هذه" (ص29)

ومن المفارقات أن العروي الذي هو على طريقته الخاصة داعية لتبني الماركسية يرى أن المفاهيم التي استعارتها الأيديولوجيا العربية من الغرب ذات معان طبقية ولكن هذه الطبيعة الطبقية للمعاني لم تنتج عن البنية الاجتماعية العربية بل عن بنية المنشأ. المعنى الطبقي للمفهوم عنده هو أثر البنية الاجتماعية التي نشأ فيها، ذلك الأثر الذي يلازمه حتى عندما يحتضنه مجتمع آخر، صحيح أن المجتمع لا يستورد اعتباطياً المفاهيم بل يستورد ما يحتاج إليه لكن المفهوم الدخيل لا تربطه بالبنية المستعيرة علاقات واضحة مباشرة. مدلوله الطبقي إن صح التعبير هو وصمة أصله.(ص28)

ويقول إنه بمجرد ما تتم استعارة عنصر واحد ترتسم في أفق المجتمع المستعير مجموع البنية التي ينتمي إليها ذلك العنصر وهذه البنية عندها لا يمكن اعتبارها داخلية أو خارجية تماماً فهي غير حاضرة كلياً ولكنها فاعلة وهو يسمي هذه العملية تمايزاً أو انبناء، عملية يتشكل بمقتضاها مجتمع ما على صورة مجتمع آخر وهي بطيئة واحتمالية لا تتحقق دائماً بالكامل فقد تتوقف في الطريق وتستبدل بغيرها وعند تحليل المستوى الثقافي خصوصاً في المجتمع لا يمكن اعتبار هذه العملية لا واقعاً قائماً ولا مجرد تخيل ووهم.

وكما يرى القارئ فإن هذه النظرية من منظور "المادية التاريخية" المعروفة نظرية مثالية تقلب التاريخ على رأسه مثل جدل هيغل الذي صلح ماركس وضعيته المقلوبة غير أننا مع ذلك، خصوصاً لأننا لسنا ماركسيين،لا نستطيع طرحها بسهولة إذ تبدو الوقائع وكأنها تؤكد ما فيها فقد حصل بالفعل أن قامت استقطابات اجتماعية على أرضية هذه المفاهيم التي استعارتها الأيديولوجية العربية المعاصرة من الغرب ففي وجه محمد عبده ثار المتصوفة وكثير من الأزهريين:أليس في ذلك تمايز خلق من الخارج يماثل ذلك الذي قام مرة بين الكنيسة ومارتن لوثر والإصلاحيين؟ألم يصطدم الاتجاه اللبرالي العربي بالاستبداد معاوداً سيرة الصراع الأوروبي بين اللبرالية وملوك"الحق الإلهي"؟

يبدو العروي بالفعل مقتنعاً بهذه العملية التي يعيد فيها تاريخ أوروبا نفسه مرة أخرى في غير أوروبا عبده يتمثل لوثر والسيد مونتسكيو وسلامة موسى سبنسر فالمدلول الطبقي خارجي وهذا المدلول الخارجي هو الذي يساعد المجتمع العربي –مع عوامل أخرى-على أن يتمايز وتتبلور فيه الطبقات.

الغرب أيضاً حين يحاور الشرق يحاوره على مستويات مختلفة فالغرب لا يحاور الشرق انطلاقاً من وضعه هو بل من المستوى من التطور الذي بلغه الشرق(لا حاجة بنا إلى القول أن هذا المستوى هو على الدوام أعلى أو يساوي نظيره الشرقي):"المجتمعان العربي والغربي إذ يجتازان فترة تداخل وتشابك لا يستطيعان التحاور في المرحلة الأولى إلا على مستوى الوعي الذهني(لنقل البنية الذهنية)ثم في مرحلة لاحقة على مستوى الوعي السياسي(البنية الاجتماعية)وأخيراًعلى مستوى الوعي التقنوي(القاعدة الصناعية المادية)"

لقد تشابك المجتمعان فما عاد الواحد منهما يستطيع رؤية نفسه بمعزل عن الآخر:يؤكد العروي لنا ذلك ولا أعرف من أين أتاه اليقين في وصفه لحال الغرب في هذا التشابك:ثمة أسباب وجيهة بالفعل تجعل العربي يصعب عليه أن يقيم نفسه بدون أن يضع صورة الغرب نصب عينيه ولكن لماذا يرى العروي أن العكس صحيح أيضاً؟"إن الأمر المهم هو تحديد تلك النقطة التي تتقاطع فيها كل الأشعة التي تنير الذات وغير الذات فتبيح لمحمد عبده مثلاً أن يدرك بنفس النظرة محيطه العربي والعالم الغربي،تاريخه الإسلامي وتاريخ الغرب.لا يقف الشيخ تجاه الغرب،ولا الغرب تجاه الشيخ،كما لو كانا كائنين منفصلين.كلاهما مندس في الآخر،شعرا بذلك أم لم يشعرا به.فلم يعد أحدهما يستطيع أن يدرس الآخر من الخارج.لم يعد الغرب يستطيع أن يحكم على محمد عبده إلا بصفته لحظة من مسيرته هو أي الغرب،ولم يعد يستطيع الشيخ أن يعكس مجتمعه بكيفية شاملة وافية تمكنه من الحكم على الغرب باستقلال وتجرد:الغرب حال فيه يلون إدراكه لذاته.القول إن عبده أصاب أو أخطأ،أحسن أو أساء،فهم الغرب أو لم يفهمه،مجرد لغو ما لم ننزله حيث يجب أي حيث يتشابك المجتمعان وينعكس كل واحد منهما في وجدان الآخر وما لم نقرر مسبقاًًً أن عبده رأى الغرب كما كان الغرب يرى نفسه في مرحلة ما وكما أراد الغرب في مرحلة أخرى أن يراه غيره"

يقول العروي آخر جملة في الاستشهاد الذي سقناه الآن ليفسر لماذا تكلم سبنسر مع عبده حين التقاه بلغة تماثل ما كان محمد عبده يريده رغم أن ما قال لا يمثل رأيه الراهن.

قد نقبل إمكانية أن يكون الغرب يرى في الحالة العربية الراهنة صورة عن مرحلة سابقة له.قد يفعل ذلك.. هو حر أن يرى أو يتوهم ما يشاء! ولكن ما لا يمكن أن نقبله بدون برهان كما يفعل العروي متجاوزاً بديهيات النظر المنطقي أن محمد عبده يرى الغرب كما كان الغرب يرى نفسه في مرحلة ما..كيف حصل ذلك وما البرهان على أن هذا قد حصل؟لا يمكن لهذا أن يقبله العقل إلا بعد البرهان على أن الوضع الذي يعبر عنه محمد عبده يتطابق تماماً مع الوضع الذي كان موجوداً في الغرب في تلك "الحقبة الما"التي يؤكد لنا العروي وجودها وليس ذلك فحسب:إن زعم العروي لا يصح إلا إذا أثبت لنا أن الغرب في تلك الحقبة كان يعبر عن نفسه بالتأكيد بطريقة أحادية متطابقة مع طريقة عبده.

ها نحن أولاء أخيراً مع نظرية العروي الحاذقة وقد كشفت أوراقها وأزاحت اللثام عن نفسها وإذا بها لا أكثر ولا أقل نظرية الخط الواحد الذي تسير عليه الأمم المختلفة :خط واحد في كل شيء"فوقيا"و"تحتياً" الحتمية التاريخية المطلقة في صورتها الأكثر تطرفاً(وأكاد أقول:الأكثر بدائية) وهذه النظرية يسمونها في أوروبا الآن "المركزية الأوروبية" وقد تعالت في أوروبا بالذات صيحات الاستنكار لها أما عندنا فأنصارها كما يعلم القارئ كثر وأسوأ ما فيها أنها مؤثرة بصورتها اللا واعية التي تتسلل عبر الحداثة والنقد الحداثي للهوية الثقافية العربية المتميزة.

يختلط في تحليل العروي القناعة الساذجة بالحتمية(وهي ،ساذجة لأن القارئ يسهل عليه"ضبطه"متلبساً باستعمال هذه النظرية التي لم يعد أحد يؤمن بها بطريقة تدل على أعلى درجات القناعة وهي الاستعمال التلقائي بدون شعور بضرورة الدفاع أو التبرير)مع نزعة براغماتية متطرفة تساق بطريقة استفزازية كلبية اللهجة.

من البديهي وخيارات العروي هكذا أن يكون الغائب الأكبر عن تحليله للأيديولوجيا العربية هو مفهوم الاستلاب مع أنه بالتأكيد يعرفه ويعرفه بالذات بالمفهوم الذي نستعمله به هنا و الذي استعملناه في أبحاث سابقة[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][4]

هذا الغائب-مفهوم الاستلاب- نراه نحن المفهوم الأهم في تحليل الأيديولوجيا العربية المعاصرة فهذه الأيديولوجيا تكونت على قاعدة الأخذ الآلي للمفاهيم التي صاغتها الحضارة الغربية ليس عن نفسها فقط بل عنا أيضاً وإذا كان مفكروا الغرب بدؤوا يعيدون النظر في مبدأ صلاحية الأسلوب الغربي في الحياة وفي رؤية الكون لكل زمان ومكان بل يعيدون النظر في صلاحيته للغرب بالذات فعلينا أن لا نفعل مثل العروي الذي يكرس كتاباً بكامله هو كتاب "العرب والفكر التاريخي" للهجوم على من يقول في الغرب بتعدد الطرق التي يمكن للحضارات أن تتبعها وللسخرية من العرب الذين يقولون بذلك.

قال العروي في فقرة سابقة وعدنا القارئ بالتعليق عليها أن الغرب حين تعرف عليه العرب "كان قد قطع شوطاً بعيداً في معرفة ذاته"

هذا التعبير غريب جداً فما معنى أن الغرب "قطع شوطاً بعيداً في التعرف على ذاته"؟ هل كان هناك سلم تطور في بدايته لم يكن الغرب يعرف عن ذاته شيئاً ثم قطع شوطاً في هذا التعرف وهو الآن بالتالي قد يكون أنهى عملية التعرف على ذاته؟

لا أجد لهذا تفسيراً إلا إذا فهمنا أن العروي يتبنى بقناعة تامة-لا دخل فيها للنفع و"الإنجاز المستعجل" هذه المرة- نظرية شبيهة بنظرية هيغل تقول إن الروح يتعرف على نفسه عبر التاريخ بحيث لا تكتمل هذه المعرفة إلا مع الزمن، والغرب والحال هذه هو الطرف الإنساني النموذجي الذي يمثل "الروح" وهو المعيار الذي يجب أن تقيس بقية البشرية تطورها عليه وقد كان هيغل والغرب كله مقتنعاً فيما مضى بهذه النظرية المركزية الإثنية المتطرفة ونحن بالفعل رأينا هذا التوجه واضحاً في تحليل العروي الذي ينضح كل سطر منه بالإيمان الأعمى بلا نقد ولا مساءلة أن تاريخ الغرب بكل جزئية من جزئياته هو التاريخ المعياري الذي يجب أن تنسخه نسخة كربونية الشعوب الأخرى وهو لا يرى الأمور بهذه الروح فيما يخص فقط الغرب الحديث-وهنا الشيء المذهل-بل فيما يخص أيضاً التاريخ القديم ومن هنا فقط نفهم لماذا يأسف العروي كل هذا الأسف في مقدمة الكتاب لأن العرب لم يعتنوا بتدقيق ما ترجموه عن اليونانية ولم يحسنوا هذه الترجمة-بتشديد السين- جيلاًً وراء جيل كما فعل الأوروبيون.

نتمنى هنا أن ينتبه القارئ إلى هذه النقطة الدقيقة:إن هذا يدل على أن العروي يرى أن البشرية لا تستطيع أن "تعيش بسعادة" أو حتى أن تعيش مجرد عيش إذا لم تنسخ كل المسار الغربي-وبالمناسبة نسبة الفلسفة اليونانية إلى الغرب الحالي كما صار معروفاً عند المؤرخين الجدد للفلسفة هو أسطورة غربية لا أكثر.

هذا هو السبب الذي يجعلني أقول إن العروي ليس فيلسوفاً حقيقياً لأن الإنسان الذي يقف إزاء ظاهرة بشرية موقفاً تقديسياً لا يتصور فيه إمكانية النقد أو إمكانية أن تكون هذه الظاهرة على غير ما هي عليه،لا يؤمن بالمصادفة ولا بالحرية الإنسانية يمكن أن يكون أي شيء لكنه لا يمكن أن يكون فيلسوفاً.

ولنعد الآن إلى السؤال الذي بدأنا به:هل الأيديولوجيا العربية المعاصرة هي مجرد نتيجة لحالة من حالات التثاقف؟والإجابة المبدئية التي أنا مقتنع بها تقول:إن هذه الأيديولوجيا العربية المعاصرة هي نتيجة لواقعة الاستلاب وليس لواقعة التثاقف،وكتابة العروي بالذات يمكن عدها نموذجاً لحالة من أشد حالات الاستلاب تطرفاً!.

رؤية العروي النفعية تجعله يقر الأيديولوجيا العربية على منطق "الإنجاز المستعجل" الذي يجعله يرى ضرورة عدم محاكمتها على أساس معايير الصحة والخطأ.ما لم يره العروي وما لن يستطيع إقناعنا به دونه وعلى أرضية المنطق النفعي ذاته هو التالي: الخيار التغريبي ساد بالفعل في كل بقاع العالم الفقير فماذا كانت النتيجة إلا مزيداً من الفقر والذل والتبعية؟
2-العرب و"إشكالية التعبير" في نظرية العروي عن الأيديولوجيا العربية المعاصرة



أولاً-نظرية العروي في الأشكال الأدبية العربية:

شغلت المفكرين العرب –كما يقول العروي- منذ عهد النهضة "إشكالية جماعية" تلخصت في مسائل أربع:مسألة الذات ومسألة التاريخ ومسألة المنهج ومسألة التعبير.

المسألة الرابعة هي التي نحن الآن بصددها وهو يلخصها كما يلي:"بأية صيغة فنية يمكن تمثيل هذه الوضعية المؤلمة والمريبة؟ كيف نكتسب شكلاً تعبيرياً يكون في آن مطابقاً للمرحلة التي نعيشها وذا قيمة كونية حتى يفهمه كل البشر؟"-ص24.

هناك مطلبان للعروي،وعلى رأيه فهما مطلبان موضوعيان لهذه المرحلة الانتقالية "المؤلمة"و "المريبة" يطلبهما من الشكل التعبيري العربي المعاصرهما "مطابقة هذا الشكل للمرحلة" و "حيازته قيمة كونية حتى يفهمه كل البشر".

استعمال أخينا العروي لكلمة "مريبة" رابني!فأنا أرتاب بعد تجربتي مع كتابات العروي في فهمه الدقيق للكثير من الكلمات العربية التي يستعملها.لنأخذ الآن استعماله هذا:قد نفهم كيف تكون المرحلة مؤلمة ولكن كيف تكون "مريبة"؟هل نضيف "مريبة" إلى أخواتها من الكلمات العربية التي يستعملها بما أخشى أنه فقدان لروح المسؤولية؟ يعززهذا الفقدان فيما قد أفترض عاملان :أولاً أنه توجه في كتاباته ولا سيما الأولى منها للقارئ الفرنسي ثانياً:أنه لاحقاً كتب للمثقف العربي الحديث الذي معلوماته في لغة التراث لا تزيد عن معلومات العروي!

وقد ذكرنا سابقاً استعماله المغلوط لكلمة"مروءة" ولأضف هنا مثلاً آخر هو "استرساله الشاعري" في الصفحة114حين يتكلم عن "النساء السمراوات المثخنات اللواتي يحلمن بماء ونخيل" أما ما يعنيه بوصف"مثخنات" فعلمه عند العروي المحلل الجريء لا للثقافة العربية الحديثة وحسب بل للثقافة العربية القديمة أيضاً.

أما أن يكون الشكل التعبيري مطابقاً للمرحلة التي نعيشها فهذا ما يمكن مناقشته بعد مناقشة نظرية العروي عن تطابق الأشكال مع المراحل وأما أن يكون من كل بد "حائزاً على قيمة كونية حتى يفهمه كل البشر" فهذا المطلب هو أولاً يحتاج ببساطة إلى التبرير فما الحاجة إلى أن "يفهم كل البشر" شكلنا التعبيري؟ وهو ثانياً يحتاج إلى برهان على واقعيته فهل هناك شكل تعبيري يفهمه كل البشر حقاً؟ وأين نذهب بملاحظة العروي الصائبة التي يبدو أنه تناساها والتي تنتقد "التحليلات الرائجة اليوم حول ما يسمى بالمثاقفة والتي تفترض خطأ أن المجتمعات شفافة سهلة الفهم والتأثر والتأثير"؟-(ص61) وسنرى في العرض اللاحق لآرائه في هذا الموضوع أنه يأخذ على الأدباء والنقاد العرب اعتقادهم بأن الأشكال فوق الزمن والطبقات فكيف نفهم نحن هذا المطلب؟.

مشكلة العروي العامة هي أنه ينطلق من مفاهيم لا تتناسب مع هواه الأيديولوجي وهذه المفاهيم هي التي تميز كتاباته وتجعل لها قيمة وهي عينها التي يهملها تلامذته ويهملها هو كما نرى هنا –وقد قلت فيما مضى أن الهوى الأيديولوجي الذي سير بالكامل كتاب العروي الثاني بترتيب النشر في المشرق وهو كتاب "العرب والفكر التاريخي" هو الذي أثر حقاً بياسين الحافظ وأشباهه وليس كتاب "الأيديولوجيا.." وكل ملاحظات العروي المنهجية الذكية المشككة بالنزعة الإنسانوية التثاقفوية السائدة عند الحداثية العربية تذهب هباء بلا فائدة في خضم النزعة النفعية المتطرفة التي يصدر عنها عروي "العرب.." وحافظ "الأيديولوجيا المهزومة".

يريد العروي أن يحلل الأشكال التعبيرية العربية المعاصرة فناً وأدباً وهاأنذا مرة أخرى أشكك: أحياناً في كونه قد قرأ النصوص بلغتها العربية الأصلية وأحياناً أخرى في كونه قد قرأها بأي لغة كانت، ومن هذا النوع الأخير ذكره المتكرر لرواية قليلة الأهمية لنجيب محفوظ هي رواية "السراب" والتي أدعو القارئ إلى قراءة "تلميحاته" عنها لكي يستنتج أن شكي في أنه لا يعرف منها غير اسمها في محله[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][5].

ولنغض النظر الآن عن هذه الملاحظات التمهيدية لننتقل إلى آراء العروي في موضوع الشكل التعبيري العربي المعاصر لنرى أن العروي على حق في كثير من آرائه .هل نتجت هذه الصوابية في الآراء عن حدس صائب دون قراءة حقيقية معمقة وهذا أمر غير مستبعد عند بعض المفكرين الموهوبين؟ قد يكون الأمر عند العروي ببساطة انسياقه وراء دافع صحيح لتسفيه وجهة النظر الانتقائية المبتذلة التي"لا تريد فقدان شيء" أي من الشرق أو الغرب مما يدفعه للتذكير بالعلاقة المنسية بين الشكل والمضمون مثلاً،ولكن وراء هذا الدافع الصحيح لنقد الانتقائية لا يكمن الدافع إلى اختيار الأصالة بل الدافع إلى التخلص النهائي من الخصوصية والهوية والاندماج بالمرجع الغربي.

لقد أصاب العروي في تشخيص كثير من أمراض الثقافة العربية غير أنه يريد أن يداوي الثقافة العربية بالتي كانت هي الداء:إنه يصف للأعور وصفة قلع العين المتبقية،يصف للاستلاب دواء الاندماج النهائي في المرجع الاستلابي وهو حين يسلط الضوء على واقعة استلاب الثقافة العربية المعاصرة لا يستخدم وصفه الدقيق للمقدار الذي وصل إليه التغلغل الثقافي المتغرب إلا كبرهان على أنه من العبث محاولة الخروج من فخ التغريب والاستلاب-وهو يكرس كتاب "العرب والفكر التاريخي"لهجاء القائلين بضرورة هذه المحاولة ليس في العالم العربي الذي يعرفه إلى حد معين فقط بل في العالم الغربي الذي هو فيما بدا لي عالمه الثقافي الأصلي فهو يهجو كل المحاولين من أهل الغرب الدفاع عن التميز الثقافي العربي وهو لا ينفك يدعو العرب إلى عدم الاستماع لهم-

من ملاحظات العروي في الفقرة المعنونة "التعبير والفولكلور" : "عاد شبابنا إلى تذوق الموسيقى الأندلسية بعد أن رأوا الأجانب يهتمون بتسجيلها والبحث عن بنيتها الخفية"- (ص211)

"إن ما يسمى بالأدب الفرانكوفوني في شمال أفريقيا باستثناء إنتاج كاتب ياسين المتميز يتسم على العموم بطابع ظرفية عابرة ولا يستهوي القارئ إلا بصفته شهادة على وضعية في غاية الخصوصية، ذلك لأن أصحابه أنفسهم يعتبرونه فرعاً محلياً لثقافة أعم وأعلى منه، لها وحدها الحق في استحسانه أو استهجانه " (ص211)

وفي الهامش يكتب ملاحظة تصيب كبد الحقيقة "وإلا كيف نفهم مبالغة هؤلاء الكتاب في تعاملهم مع الجنس والعنف؟ إذا قيل: كل ذلك موجود في ألف ليلة وليلة فذاك دليل على عدم التمييز إذ الفرق واضح بين الحالتين" وهذه الملاحظة الصائبة يمكن عدها تحليلاً لجملة كبيرة من الأفلام العربية التي أنتج كثير منها في المغرب العربي والبعض منها في المشرق وأغلبها إنتاج مشترك أوروبي-عربي والتي تركز على هدف إظهار المجتمع العربي الأهلي بالصورة التي توجد في الوعي الجمعي الغربي- بصورة خاصة يركزون على الجنس والعنف خصوصاً ضد النساء. هذه الملاحظة يذكرها العروي ولكنه لا يسمعنا رأيه فيها وهو بالتأكيد لا يستنتج منها الاستنتاج البدهي الذي يستنتجه أنصار الأصالة الذين يسخر منهم العروي وتلامذته في المشرق.

يقول العروي إن "الفولكلور" و"الثقافة" أمران مختلفان فالفولكلور هو الثقافة بعد أن هجرت أو الثقافة المحلية الممارسة منظوراً إليها من قبل شرائح جديدة لم تعد تمارسها في الداخل أو من قبل الغرب الذي يعتبرها متحفاً للفرجة.

وفقاً لنظريته العامة في اللحظات الثلاث لتطور الأيديولوجيا العربية المعاصرة يقسم تطور الإنتاج الأدبي العربي إلى ثلاث مراحل تتطابق كل منها مع لحظة من لحظات هذا التطور:

أولاً: مرحلة نيوكلاسيكية حيث قامت حركة التحقيق اللغوي والأدبي بإحياء فنون القول القديمة وتوظيفها لنشر أفكار ومشاعر جديدة فتحولت القصيدة إلى نشيد وطني والمقامة إلى هجاء اجتماعي والنبذة التاريخية إلى مقالة سياسية هذه المرحلة "تكشف عن مفهوم للذات وللغرب وللتاريخ العربي يطابق تمام المطابقة تفاؤل الشيخ ومنهجه المطمئن الساذج" (ص217)

ثانياً: مرحلة عاطفية رومنسية نشأت وازدهرت تحت شعار الحرية الليبرالية. أعلى العرب شأن الرواية فوق كل فن وكما لم يناقشوا حسنات النظام البرلماني في السياسة لم يشكوا في أن الرواية أعلى وأرقى الفنون. يقول العروي: "عيب على الخلافة كونها لم تكن ديمقراطية ثورية، وعيب على الأدب العربي القديم كونه لم يهتد إلى إبداع الرواية المطولة. وقاد الحملة على الواجهتين طه حسين، متأثراً بأفكار لطفي السيد، ثقافياً إن لم يكن سياسياً" (ص218)

أعتقد أن قلم العروي أو المترجم- رغم أنه من المفروض أن هذه الطبعة أصلية باللغة العربية!- أو لا أعرف قلم من قد طاش فأضاف كلمة "ثورية" إلى "ديمقراطية" إذ كان هذا المصطلح غير مستعمل في ذلك الزمن على الأقل في مدرسة لطفي السيد، ومن جهة أخرى لم أصادف في كل قراءاتي المطولة لكتابات ما يسمونه "عصر النهضة العربية" نصاً لكاتب من ذلك الزمان يعيب فيه على الأدب العربي القديم كونه لم يبدع الرواية المطولة وكنت سأفترض أن العروي قد خانته اللغة العربية فوضع مصطلح "الرواية المطولة" في مكان "الملحمة" لو أنه لم يذكر الملحمة في مكان آخر، فقد كانوا بالفعل يعيبون على الأدب العربي خلوه من المسرح ومن الملحمة الشعرية المطولة على طريقة اليونان ومن اقتفى أثرهم من الرومان- وكلا الاتهامين مشكوك بصحته وعلى فرض صحتهما فإنهما لا يستندان كمبرر منطقي على شيء إلا على القاعدة النفسية الاستلابية التي تحاسب الذات حساباً عسيراً على كل اختلاف لها مع المرجع الاستلابي كما ذكرت في مقالات سابقة- وما كان أصحابنا النهضويين يعيبون على الأدب العربي القديم خلوه من الرواية لسبب بسيط هو أنهم لا يعيبون على الأدب العربي إلا أن تاريخه مختلف عن التاريخ الأدبي الغربي وفقاً لتصورهم عنه وفي زمان الأدب العربي القديم لم يكن في الغرب المفترض رواية-وقد ذكرنا أن فكرتهم عن تاريخ الأدب الغربي هي فكرة افتراضية ونزيد أنها حافلة بالأوهام الناتجة عن تصديق ما كان مؤرخوا الغرب آنذاك يشيعونه من كون الحضارة الغربية هي استمرار للحضارة اليونانية وهذا الوهم بدأ الآن في الغرب يتبدد ويظهر كأسطورة لا أصل لها.

وبرأيي فإن العرب في المرحلة المعنية لم يرفعوا من شأن الرواية ويعلوها على كل فن كما يزعم العروي لأن الشعر كان لا يزال له النصيب الأكبر من الاعتبار وما من ريب في أن الروايات القليلة التي أنتجت في ذلك الزمان ما كانت تستطيع أن تنافس في الشهرة والتأثير شعر شوقي وحافظ ومطران ولا حتى شعراء مدرسة "أبولو" الذين جاؤوا من بعد هؤلاء وحتى العقاد والمازني الذين كان تأثيرهما الثقافي المهم يتمثل في نقل النظريات النقدية الغربية وتطبيقها على الأدب العربي خصوصاً الشعر نظرا إلى نفسيهما كشاعرين قبل أي شيء ،بغض النظر عن القيمة الفعلية لشعرهما كانا يعدان نفسيهما شاعرين كبيرين والعقاد بالذات كان على الأغلب يعد نفسه أكبر شاعر في عصره! والعقاد بالذات كان يصرح بتفضيل الشعر على القصة وهو الذي أثار مرة معركة صحفية حين أعرب عن رأيه في أن الفرق بين الشعر والقصة مثل الفرق بين الذهب والحديد ذلك أن بيتاً واحداً من الشعر في رأيه يغني عن خمسين صفحة من القصة .

ثالثاً وأخيراً: مرحلة واقعية اتحدت فيها أساليب التعبير الأدبي من رواية وقصة ومسرح وسيطرت عليها سيطرة كاملة شخصية نجيب محفوظ. وبرأي العروي فإن هذه المرحلة مرتبطة بالبرجوازية الصغيرة ودليله على ذلك تشخيص نجيب محفوظ لسلامة موسى في ثلاثيته تحت اسم "عدلي كريم" المثقف الجريء في أفكاره والمعتز بنفسه مدير المجلة وزعيم الشباب التقدمي.

ويرى العروي أن كل التيارات التي ميزت العصر الليبرالي انحلت في المدرسة الواقعية كما أن الدولة الليبرالية انحلت في الدولة القومية.

يتحدث العروي عن النقد الذي رافق الأدب العربي الحديث وأهمية هذا النقد عنده أنه يشير إلى ما كان المجتمع ينتظره من أدبائه وفنانيه، فيمر أولاً على النقد الجامعي الذي يحكم سلبياً على النتاج الأدبي العربي ويراه ضعيفاً لأسباب موضوعية اجتماعية مثل الفقر والأمية وضمور دور المرأة وفنية ناتجة عن ضعف الخبرة في الأشكال التعبيرية الدخيلة التي هي لم تكن نتاج تطور طبيعي لأشكالنا المحلية ولغوية ناتجة عن استيقاظ اللغة العربية بعد الرقاد على عالم لم تعرف بعد كيف تصفه. العروي يرى أن هذا النقد الجامعي يؤول إلى تفسير واحد لضعف النتاج الأدبي هو أن المجتمع العربي لم يبلغ بعد حداً كافياً من التبرجز وهو يرى أن هذا التحليل لا يكشف عن "الأصل الأصيل" للمشكلة و"دليله" على ذلك هو أنه بعد قرن من الإصلاح على النمط الغربي في روسيا وجدنا شاعراً مثل بوشكين على حين وجدنا في مصر شوقي ويقول :"الفرق بين الرجلين واضح، لا يشك فيه أي ناقد مطلع ومتذوق" (ص221) فيبقى إذا السؤال عن السبب قائماً.

السيد العروي وتلاميذه في المشرق والجيل الثالث الحالي من هؤلاء التلاميذ أيضاً لا يزالون يتحفوننا بالمصادرة تلو المصادرة أو بتعبير العروي "بالتلميح تلو التلميح" عن التخلف العربي الذي برهانه الواضح البديهي الذي لا يستلزم أكثر من مد الأصبع للمسه هو واقعة الاختلاف. لا ريب أن شوقي يختلف عن بوشكين هذا كل ما تقدمه لنا النظرة المباشرة، و "الناقد المطلع والمتذوق" سيلاحظ طبعاً الفرق وحتى لولم يكن مطلعاً ومتذوقاً فإن الفرق كبير لا بد له أن يلاحظه!السؤال هو فقط:هل يجب علينا أن نضع وراء كل فرق قيمة متناقضة تعطى درجتها العليا لواحد والسفلى لآخر "فينجح"الأول في الامتحان و"يرسب"الآخر؟ لا يستطيع صاحب النظرة الأحادية الخطية لتطور المجتمعات البشرية،النظرة التي ترى أن مجتمعات بعينها تمثل المعيار والقيمة بحيث ينزل في درجة الاعتبار كل مجتمع آخر يختلف عنها أن يفهم أن الاختلاف هو اختلاف فحسب أما القيمة فيمكن أن تكون واحدة مع الاختلاف كما يمكن لوردتين مختلفتين أن يكونا بنفس الجمال! ثمة فرق بين شاعر روسي معجب بالثورة الفرنسية ناقم على القيصرية ونظامها الاجتماعي والسياسي ولكنه من جهة أخرى منغرس في لغتها الروسية محب لها- وكان في جملة صفاته بالمناسبة رجلاً تجري في عروقه دماء عربية وقد قرأ ترجمة للقرآن وله عنه كتابة- وبين شاعر عربي مسلم هو أيضاً معجب بالغرب على أنه لم يكن ثورياً وكان ذا صلة بالخديوي الأخير الذي لم ينصبه الإنكليز وقد اهتم بالمسرح على حين اهتم بوشكين بالرواية الشعرية والنثرية. باختصار هناك "فرق كبير" ولكن لماذا يريدنا العروي أن نقتنع بأن هذا "الفرق" الذي لا يعني أكثر من "الاختلاف" هو في الحقيقة فرق في "القيمة"؟- لاحقاً يفسر لنا العروي الفرق في القيمة بين الرجلين بأنه ناتج عن أن بوشكين قلد مرحلة غربية فتية على حين قلد شوقي غرباً شائخاً فقد حرية الاختيار وصدق التعبير وصفاء الوعي (ص248)وهذا لا يحل المشكلة بل يزيدها تناقضاً هو من صفات فكر العروي إذ يستبدل المصادرة بمصادرة لا تزيد عليها في كونها غير مبنية على برهان ويعود فيعتبر المصادرة حقيقة ثابتة هي والاستنتاج الذي هو حتى لم يبن عليها بصورة ضرورية منطقياً بل بارتباط محض حدسي يقوده "أسلوب التلميح" الغامض الذي خلب العقول المستلبة في المشرق "فآمنت وصدقت" بأطروحات العروي وادعت أنها فهمتها وأتحدى أياً من هؤلاء أن يريني كتابة واحدة له في ذلك الزمان الذي صدرت فيه النسحة الأولى المترجمة لكتاب "الأيديولوجيا.." في ذلك الزمان الذي انهالت فيه التقريظات التي تدعي ضمناً أنها "فهمت"العروي،كتابة واحدة تسأل عن التناقض المنطقي والغموض الذي يعلنه لنا العروي الآن حين يخبرنا كيف قلب المترجم بعض معانيه وجعل بعضها غير مفهوم!كلا بل كانوا كلهم يؤكدون فهمهم لمقاصد الكاتب ويتعلم متواضعوهم-مثل المرحوم ياسين الحافظ- منه!

كان ميخائيل نعيمة في مطلع القرن العشرين قد صادر مصادرة مماثلة لمصادرة العروي عن شوقي وبوشكين في كتاب "الغربال"-انظر الطبعة13-1983-بيروت-ص48- فقال إنه "لا يظننا ظالمين" إلى حد أن نرفع عنترة و امرأالقيس وجرير و المتنبي وابن سينا وابن رشد و شوقي وحافظ والمطران إلخ إلى مصاف هوميروس وفرجيل ودانت وشكسبير وملتون وبيرن وهيجو وزولا وغوته وهينه وتولستوي!. أسوأ ما في عقدة النقص أنها "عقدة مصادرات" إن صح التعبير فلا نعيمة ولا العروي يخطر ببالهم خاطر الشك في التفوق المطلق لما يراه الغرب متفوقاً- المؤرخون الجدد للأدب في الغرب لا ينسبون هوميروس وبوشكين أيضاً ومن كل بد إلى "الغرب" أكثر من "الشرق"-

شوقي مختلف عن بوشكين لأسباب جماعية تتعلق بانتمائهما إلى قوميتين ولغتين وثقافتين مختلفتين وفردية تتعلق بكونهما ببساطة إنسانيين مختلفين! أما الذين يريدون أن يجعلوننا نرى في كل اختلاف علامة تغاير في القيمة المطلقة فإن هؤلاء هم دعاة النظرة العنصرية في أكثر أشكالها بدائية وكما قلنا يقدم العروي نفسه في "تلميحاته" في كتاب "الأيديولوجيا..." التي لم تزل بعد منضبطة وفي كتاب "العرب.." حيث انفلت فيه من كل قيد واعتبار واضعاً نفسه تحت هيمنة النزعة النفعية المبتذلة المتطرفة محارباً لا يشق له غبار ضد دعاة التعددية الحضارية في العالم واختلاف الطرق الحضارية التي تستطيع المجتمعات المختلفة سلوكها.

بعد هذا الانتقاد لما يسميه "النقد الجامعي" يذهب العروي إلى نقد من نوع آخر هو على رأيه أكبر دلالة فكرياً واجتماعياً من السابق وهذا النقد يتكون دائماً من عنصرين: أحدهما موضوعي يستهدف رصد الأسباب التاريخية والاجتماعية التي فرضت قيوداً منعت الكاتب من النبوغ والتبريز والعنصر الثاني يبحث في الأسباب الذاتية لذلك الإخفاق ويربطها بعدم التزام الكاتب بقضايا الطبقات الفقيرة التي هي في نظر أولئك النقاد الملتزمين منبع كل محاسن الأخلاق. (ص221)

لنترك مسألة دقة استعمال العروي لمصطلح "محاسن الأخلاق" جانباً رغم أنه يغرينا بمعاودة التعليق على الطريقة التي سبقت وصار يعرفها القارئ.

بدون رابط منطقي ينقلنا العروي إلى الحديث عن مراحل ثلاث في النقد في المرحلة الأولى التي طغت عليها شخصيات المازني والعقاد وهيكل جرى النقد تحت شعار الحرية الفردية المطلقة وأخذ على الشعراء محافظتهم على الشكل التقليدي المألوف مما جعل الشكل الجامد يطغى على مضمون إنتاجهم ويزعم العروي أنهم كانوا يطلبون من الشعراء التخلص من العروض والقافية ليستطيع الشاعر أن يعبر بصدق عن خلجات قلبه،لعمري لا يدعي هذا الادعاء إلا شخص هو بالتأكيد لم يقرأ شعر العقاد والمازني الموزون المقفى! ولم يدع إلى التخلص من العروض والقافية بصورة جذرية إلا حداثيو الستينات فشعراء التفعيلة أبقوا كما يعلم القارئ على التفعيلة وعلى شكل من القافية أيضاًً.

قلت أن هذه الفقرة لم ترتبط منطقياً بمقدمتها لأننا هنا لم نجد العنصر الموضوعي الذي يستهدف رصد الأسباب التاريخية والاجتماعية التي قيدت نبوغ الكاتب وتبريزه ولا فيها البحث في الأسباب الذاتية لذلك الإخفاق مع الربط بعدم التزام الكاتب بقضايا الطبقات الفقيرة وهذه القفزات فوق الارتباط المنطقي سمة ثابتة من سمات "تلميحات" العروي.

على كل حال هذه الحقبة الأولى ارتبطت بالوعي الليبرالي الخاضع كلياً للتأثير الغربي وكان الكتاب مرتبطين حتى شخصياً بزعماء السياسة.

وفي الحقبة الثانية المتأثرة على رأي العروي بمنظور البرجوازية الصغيرة تم نقد الإنتاج الأدبي باسم الفاعلية والالتزام وبلغ هذا الاتجاه ذروته بعد الحرب العالمية الثانية مما ساعد على نجاح الحركة الواقعية واكتساحها الساحة الأدبية.

وفي الحقبة الثالثة والأخيرة وهي وحدها التي تستحق منطقياً أن تأتي بعد المقدمة التي قلنا أنها لا رابطة منطقية بينها وبين ما جاء بعدها مباشرة استعار النقد الملتزم كما يقول المؤلف أسلحته من الماركسية الوضعانية عاقداً العزم على أن يكون بنّاء فأظهر أن واقعية ما بعد الحرب كانت خطوة عظيمة إلى الأمام لولا نقص الوعي الاجتماعي فيها. مثلاً واقعية نجيب محفوظ كانت محدودة المضمون إذ اختصت بإبراز أزمات البرجوازية الصغيرة في النظام الليبرالي، مآسيها وثوراتها الفوضوية. ميز الكتابة لغة مبسطة لكنها وفية لقواعد الإعراب كحال أنصاف المثقفين الناطقين بها، وميزتها كآبة لا بريق فيها متشائمة ناتجة على رأي أحد نقاد هذه المرحلة وهو عبد العظيم أنيس عن إصرار محفوظ على عدم تجاوز حدود البرجوازية الصغيرة فهو لم يرد أن يرى نمو طبقة جديدة هي عمال الصناعة تحمل دواعي الأمل. طالب النقاد الجدد بإبراز البطل الواقعي الذي تحدث عنه غوركي ومن جهة أخرى بالتخلي عن العربية المعربة ورحب النقاد برواية الشرقاوي "الأرض" لأنه كتب الحوار بالعامية ولأنه وصف الفلاح بما هو عليه من جهل وقسوة ووسخ وطيبة فطرية أيضاً ولأنه أخيراً أنهى الرواية بنبرة متفائلة.

وبعد هذا الاستعراض يعود العروي إلى نظريته العامة في الأيديولوجيا العربية المعاصرة ويقول إن النقد الجامعي ظن أن مشكلة تخلف التعبير العربي عائدة إلى عدم اكتمال المجتمع غافلاً عن أول واجبات مثقف البلدان المتخلفة وهو وعي ذلك التخلف ومحاولة إدراكه والتسامي عليه أثناء العملية الإبداعية نفسها. وأما النقد الأيديولوجي فهو أعمق دلالة إذ يحرص على تمييز الظروف الموضوعية والذاتية التي يخضع لها بالضرورة كل إنجاز أدبي.

العروي يرى في مراحل النقد الثلاث التي سبق ذكرها عكساً لأشكال الوعي الثلاثة التي انبنت عليها وفق نظريته الأيديولوجيا العربية المعاصرة فالليبراليون دافعوا عن حقوق الفرد في وجه قيود التقليد الموروث فكانوا مقلدين للمرحلة الليبرالية الغربية. رواية زينب كررت رواية روسو "هلوييز الجديدة" والعقاد يذكرنا كما يزعم العروي بالضفدعة التي حاولت تقليد الثور!. وحين جاء الواقعيون- نجيب محفوظ- رأينا أنفسنا نسأل إلى أي مرحلة من مراحل الرواية في الغرب ينتمي محفوظ؟ إلى مرحلة بلزاك أم زولا أم درايزر أم أوهارا؟ ممن استوحى فكرته الأولى؟وفي ملاحظة هامة يقول العروي "أياً كان الكاتب الذي تمثله محفوظ أول الأمر فإنه لا يستلهم منه فقط قواعد الصناعة الروائية وإنما يتشبع أيضاً بنظرته إلى الكون والمجتمع. نظرة يسحبها من بعد تلقائياً على مجتمعه هو فلا بد أن نأخذها في الاعتبار كقراء ونقاد" (ص229)

بوجه عام يرى العروي أن "الناقد الهادف"-أي المنتمي إلى المدرسة التي يسميها هو"النقد الهادف"- لا يأخذ دافع النقد من الواقع بل مما يمليه عليه نقد نشأ في مكان آخر- الغرب، تمثله واتخذه كأنموذج، فمرجع النقد الليبرالي هو الأدب التحليلي النفساني - مصطلح للعروي مشكوك في دقته عندي- وهو روسو بالنسبة لهيكل وديدرو بالنسبة لطه حسين وتورغينيف بالنسبة للمازني. ومرجع النقد الواقعي هو إنتاج الطبيعيين الفرنسيين والأميركيين زولا و درايزر ومرجع النقد التقدمي هو الرواية الواقعية الروسية تشيخوف وغوركي.

يقول العروي: " لا نناقش هل يمكن أو لا يمكن الاستغناء عن النموذج، نقرر هنا فقط أن الأشكال التعبيرية التي يدافع عنها هؤلاء أو أولئك ليست مرايا صقيلة لا تلون ولا تشوه ما ينعكس فيها، وهو ما قد يسبق إلى وهم القارئ. لا يليق بنا إذاً أن نكون من السذاجة إلى حد الاعتقاد أننا نمسك مباشرة بواقع المجتمع بمجرد أننا ننظر في الأعمال الأدبية. الواقع الذي نمسكه بدون منازع ليس الريف المصري كما يصوره هيكل، إذ هو لوحة مستوحاة كلياً من فكرة روسو عن الطبيعة الفطرية، بل كون محمد حسين هيكل المصري تعاطف عفوياً مع تصورات روسو الريفية المائعة. كما أن الأمر الذي يحمل دلالة قطعية ليس ما يصفه محفوظ، إذ لا أحد يستطيع أن يضمن لنا مطابقة الموصوف للواقع، وإنما كون محفوظ، الكاتب الشاب التواق إلى شكل روائي يلائمه، اختار بعد التدبر والتروي أسلوب الطبيعيين بما فيه من تشاؤم وتشبث بعلوم المادة. لأجل الكشف عن الواقع في هذا الدب لا مفر إذاً من اعتبار النموذج- المرجع. وهكذا نصل إلى خلاصة لها أهميتها وهو أنه يجب فحص فنون التعبير الأدبي من رواية و قصة قصيرة ودراما إلى آخره والتساؤل عن جدواها بصفتها أشكالاً وصوراً" (ص230)

كلمة "جدوى"لا أظنها-كالعادة-تعبر بدقة عما يريده المؤلف، ولكن رأي العروي هذا هو بالفعل جديد ومجدد في الفكر العربي الحديث فهو يرى أن العلاقة بين الواقع والنص الأدبي ليست مباشرة بل يمكن رسمها كالتالي:الواقع العربي-المؤلف-الأنموذج الغربي المستعار-النص.

النص-إذا بدأنا من النهاية تحدده رؤية الكون التي أنتجت النص الأنموذج ولكن اختيار هذه الرؤيا جاء بتأثير من المرحلة التي يمر بها المجتمع الذي ينتمي إليه المؤلف وهذا ما يذكرنا طبعاً بنظرية العروي العامة عن العناصر التي استعارتها الأيديولوجيا العربية ،هذه العناصر التي تحتفظ "بوسم الأصل" وهي ليست بعد استعارتها لا داخلية ولا خارجية وهي تساعد على تكوين المجتمع العربي وتعميق التمايز الطبقي فيه وفقاً لأنموذجها.وكما في حالة وصفه لما يراه "الحظات الثلاث للأيديولوجيا العربية المعاصرة" ثمة حتمية في النسخ العربي للأشكال الأدبية الغربية لا يفسره العروي مما يجعلنا نعتقد أنه يرى فيه نوعاً من الحتمية التاريخية بحيث لا يمكن تصور مسار آخر كان يمكن أن تجري عليه هذه الصيرورة .

يرى العروي أن لويس عوض وحده أوحى باستحياء بعد أن تابع الدراسات المستجدة لشكسبير أن الشكل قد يحمل في ذاته فلسفة ونظرة إلى العالم بصرف النظر عن المادة المروية.

يرى النقد الهادف كما يقول العروي أن الأدب صناعة تحتاج إلى تدريب ومتى امتلك الأديب ناصية هذه الصناعة أبدع عملاً متكاملاً يعبر بصدق عن الواقع. ولكن هذا الاعتقاد لا يصح إلا لو كانت الأشكال غير خاضعة لتغيرات التاريخ أما إذا اتضح أن لكل شكل بصفته شكلاً أكان رواية أم قصة أم مسرحية يحتوي على مضمون تاريخي وطبقي معين فإنه ما عاد هناك من ضمانة لصدق التعبير وأمانته فنحن لن نصل إلى هذا الصدق بمجرد تحكمنا في شكل يقال إنه مشترك بين البشر أو بوصفنا المتسع للمجال الاجتماعي أو بتنويعنا وتدقيقنا في أساليبنا البلاغية. كل ما سنحصل عليه بعد الجهد هو صورة مغرضة من نوع آخر لواقع محجوب عنا باستمرار فمدرسة التحليل النفساني عند طه حسين أو مدرسة الواقعية الطبيعية عند محفوظ أو مدرسة الواقعية التقدمية عند الشرقاوي كانت كلها غير أصيلة لأنها وصفت المجتمع العربي بأساليب تعبيرية وتشكيلية مستعارة. إن الأشكال التي يطبقها أدباؤنا على مادتهم تطوع رغماً عنهم تلك المادة وتغيرها بتأثير خفي مما علق بها من موضوعاتها السابقة فتشاؤم محفوظ مثلاً يرتبط بالشكل الروائي الطبعاني أكثر من ارتباطه بالموصوف أو بموقف المؤلف بالحياة. والتجارب التاريخية لا تدل على إمكانية ظهور أدب أصيل بعد فترة من التلمذة والتدريب على أشكال صالحة للجميع فالنبوغ يسبق النقد- في هذه النقطة بالمناسبة يتدخل سوء الصياغة المألوف عند العروي ليقلب المعنى إذ يقول: "سبق النبوغ، ويضع فتحة على الغين، حركة نقدية" ومقصوده الذي استنتجته بعد تأمل طويل العكس أي أن النبوغ هو الفاعل لا المفعول به وكان الله في عون التلامذة في المشرق الذين "اضطروا" لفك الطلاسم العرويّة التي زادت الترجمة طينها بلة!- ويسخر العروي من مسيري الدولة القومية ذوي الذهنية العملية الذين يودون أن يولد الكتاب بالتدريب والتأهيل مثل صناع الحديد والفولاذ.

"النقد الهادف" عند العروي يستخدم مفهوم الطبقة ليحكم على الكاتب والقارئ والمضمون واللغة ولكنه لا يضع الشكل الأدبي شكل الرواية أو القصة القصيرة أو المأساة قيد البحث إذ يعتبره سابقاً على الطبقات وهذا ما يفسر عنده انتشار الكتب التعليمية مثل "فن الشعر" و "علم المسرح" التي تبنى على الاعتقاد أن الكاتب لا ينقصه للكتابة إلا التدريب. وهذا ما يفسر أيضاً الإعراض عن الأدب العربي القديم الذي رموه بالعقم والتفاهة لأنه لم يكتشف الأشكال التعبيرية الغربية الكونية الصالحة لكل زمان ومكان في اعتقادهم وهم لم ينظروا إلى الأشكال العربية القديمة على أنها مطابقة لظروفها بل على أنها محاولات مبتسرة أو مجهضة فالقصيدة ملحمة ناقصة والمقامة رواية مختزلة والسيرة الشعبية أول خطوة على اكتشاف التعبير المسرحي- لم أفهم لماذا لا تكون هذه السيرة بالأحرىخطوة على طريق القصة لا على اكتشاف التعبير المسرحي؟ إذ ليس فيها ما يذكر بالمسرح خصوصاً عند قراءتها ككتاب، وخصوصاً أن العروي يقول بعد هذا مباشرة إن محمود تيمور اعترف بأنه سارع إلى الإنكار على الأدب العربي أنه فيه قصة فالحديث إذن عن السوابق العربية في القصة-

اختصم النقاد العرب على أشياء كثيرة ولكنهم قبلوا الأشكال التعبيرية الغربية كأشكال فوق الزمان والمجتمع بلا نقاش. النقاد تكلموا كثيراً على سوسيولوجيا المضمون ولم يبحثوا في سوسيولوجيا الشكل. والعروي يريد أن يقوم بهذا البحث:

1-سوسيولوجيا المسرح: ما سر إخفاق تجربتي أحمد شوقي وتوفيق الحكيم؟

يقول العروي إن المجتمع الذي لا يعرف أو يحارب الوعي المأسوي لا يمكن أن يكتب مأساة حقيقية. لا بد من أن ينشطر الوعي الجماعي بحيث يرى المشاهد أن على الخشبة حكمين أخلاقيين متعارضين ومتلازمين. النقطة بالنسبة للمسرح العربي هي: هل يمكن أن يوضع القدر بين قوسين؟ هل يجوز التشكيك بمقاصده؟ هذا أمر غير ممكن على رأيه لأن العرب يريدون الثقة بالمستقبل.

والمجتمعات التي استطاعت اقتباس المسرح الإغريقي بنجاح أنجزت ذلك في جو تاريخي واجتماعي ملائم يستدعي الشك والتساؤل في شرعية ما يجسد الحق المطلق. هذا هو السر في كون مسرحيات شوقي لا تزيد عن كونها غناء تعليمياً لأن المجتمع و شوقي نفسه لم يكونا على استعداد لتناول مسائل الحق والتاريخ تناولاً إشكالياً إذ الماضي بأمجاده هو وحده السد الواقي من الضياع.

و أما الحكيم الليبرالي فأخفق لأنه لم يلتزم بعصر معين بل اعتقد أن مجال فنه هو كل ما يمت إلى الإنسان عامة.

2-الرواية: يتساءل العروي: هل يوجد بالفعل في مجتمعنا موضوع روائي؟ إن الوسط الملائم للرواية الحديثة هو الوسط البرجوازي وطبقتنا البرجوازية قليلة العدد وغير متجانسة فلم يبق للكاتب ما يصفه إلا ضواحي المدينة وليس قلبها. ما يجاور الكاتب العربي ويقع تحت أنظاره هو البرجوازي الصغير، إنه يحاول أن يصف الأطراف بشكل سردي أبدع أصلاً لوصف المركز لذلك يستنتج العروي أن الأقصوصة هي الشكل الأدبي المطابق لمجتمعنا المفتت المحروم من أي وعي جماعي.

3-الأقصوصة: عندما تذوب الرؤية البرجوازية في رؤية البرجوازية الصغيرة ينتهي طور الرواية الواقعية، تضمر روح الحركة والنشاط والإبداع، يتفتت الواقع، ينحل الحدث الروائي في الرمز وتتحول الرواية إلى سلسلة من اللقطات اللحظية. الأقصوصة فصل ختامي لرواية استغنى الكاتب عن سردها. إنها لا تفصح عن الواقع بل تكتفي بالإشارة والتلويح إليه وتلقي على القارئ مهمة استدعائه ومن هنا نزعتها الرمزية وإيجازها واختزالها وبعد هذا كله يعود العروي ليخبرنا أن الأقصوصة أيضاً تحتفظ بمغزى اجتماعي محدد ورثته عن منشئها في أحضان المجتمع الغربي. ثم يعود العروي و "يلمح لنا" أن المجتمعات التي مارست الأقصوصة فحصت بعمق أصولها الفنية وهذا هو الذي فتح باب الإبداع بالكشف عن محتوى جديد ملائم لمنطقها الضمني على حين يعتقد القصاصون العرب أن كتابة القصة القصيرة مجرد تمهيد لكتابة الرواية: "هل يختفي المضمون الفكري والأخلاقي الكامن في شكل الأقصوصة؟ لا بالتأكيد إن الأقاصيص العربية تحمل ذلك المضمون كظل ملازم لا تعي به ولا تفحصه لذا نجدها تتماثل وتتساوى في الغالب. تمر الأعوام يتكاثر الإنتاج دون تحسن أو امتياز نواجه من قصة إلى أخرى نفس النساء يتخاصمن باليد واللسان نفس الحراس والبوابين يعجبون لعبث الأقدار(...) لا فرق في هذا الباب بين إنتاج مصري مستوحى من الواقعية الأوروبية وإنتاج عربي مستوحى من التأليف المصري..أسباب واحدة ونتائج متماثلة" (ص246)

إذاً فهذه القصص قدلا تعكس كآبة الواقع العربي بقدر ما تعكس يأس موباسان وتشيخوف. الأستاذ العروي متجهم الأسارير أما نحن فلنا أن نضحك لهذه النكتة القوية غير المقصودة التي تصيب هدفها بشكل غريب و جاءتنا ليس من عدو للغزو الفكري بل من واحد من منظريه الكبار والمدافعين عنه والهازئين من خصومه دعاة الأصالة التي هي في رأيه "دعوة فارغة"

الواقعية اليائسة في الأقصوصة كانت على رأي العروي تناسب عهد التبعية أما بعد قيام الدولة القومية فإن هذا الشكل صار يمنع إدراك ما يحدث في الواقع ومن هنا تكرار نجيب محفوظ لنفسه مثلاً في أحد كتبه الأخيرة وقت كتابة الكتاب وهو كما يخبر العروي قراءه ذو عنوان دال "أرض الله" –الصواب "دنيا الله!"- حيث يقدم لنا صورة ثابتة شبه راكدة عن مجتمع نعلم أنه في غليان، إنه الشكل ينتقم من كاتب غفل عما يحمله من محتوى طبقي.

ثانياً-في تقييم نظرية العروي عن تكون الأشكال الأدبية العربية المعاصرة:

والآن لنأت إلى السؤال عما قدمه العروي إلى نظرية الأدب العربية-وهنا أفترض كما يرى القارئ أن لكل لغة نظرية أدب خاصة بها، وإن كان هذا لا يمنع في المستقبل محاولة التعميم ووضع نظرية عامة للأدب.تماماً كما أن علم اللغة يبتدئ بفهم كل لغة على حدة وبعد ذلك فقط يمكن محاولة وضع علم لغة عام وهذه الطريقة في التفكير هي التي تميز النظرة الإنسانية العميقة التي نؤيدها على النظرة الإنسانوية الساذجة السائدة التي تريد أن تفبرك نظريات تعميمية على الثقافة الإنسانية عموماً قبل أن تدرس الاختلافات أولاً والنتيجة كما قلنا في أمكنة أخرى تكون عادة نظرية عنصرية أنانية تجعل من ثقافة واحدة نموذجاً ومعياراً ولا تستطيع فهم الثقافات الأخرى إلا بصفتها "انحرافات عن الطبيعي".

بنظري فإن لدى العروي ما يقدمه- خلافاً لرغبته!- لدعاة الأصالة فملاحظاته الصحيحة في موضوع الترابط بين الأشكال الأدبية المستعارة ورؤى الكون التي أنتجتها تجعلنا نتبنى هذه النظرة ولكننا نستنتج منها ما لا يستنتجه هو واستنتاجنا هو أن على الأدب العربي ابتكار الأشكال التي تعبر عن ذاتنا الحقيقية ورؤيتنا نحن للكون.

العروي متناقض فهو يؤكد تارة أن الأقصوصة-مثلاً- تعبر عن مجتمعنا المفتت ذي البرجوازية التابعة وهو من جهة أخرى يؤكد أن الأقصوصة تعبير عن ظروف غربية ولكننا نحن نستطيع أن نرى بالفعل أن الرؤى المخزونة في الأقصوصة العربية لا تعبر عن روح المجتمع الأهلي بل هي روح مستوردة غريبة،من هنا كان اغتراب الأديب العربي عن واقعه اغتراباً عميقاً لا شفاء له.

برأيي فإن الشيء الأساسي الذي ميز اغتراب الأدب العربي المعاصر لم يكن "استيراد الشكل" وحسب،بل كان استيراد كل شيء.وللتأكد من ذلك ما علينا إلا الخروج من دائرة التجريد النظري العام ودراسة التاريخ الملموس لأشكال أدبية محددة:خذوا المسرح مثلاً وانظروا بداياته في مصر التي كانت تعريب مسرحيات فرنسية و"تمصيرها"- كما يخبرنا توفيق الحكيم في "سجن العمر"- والحكيم يخبرنا أنه فوجئ حين ذهب إلى فرنسا أن بعض المؤلفين الذين كان يعرب مسرحياتهم ويظنهم من الكتاب الكبار للمسرح ما كانوا في الحقيقة في فرنسا إلا كتاباً ثانويين وقد كان التمصير يقتضي بعض التغيير في الأحداث لتتناسب مع التقاليد المحلية مثل منع الاختلاط في المدينة المصرية آنذاك.إن أحداث الروايات والمسرحيات والنقاط التي يراها الأبطال مهمة تختلف في الروايات عنها في المجتمع الأهلي اختلافاً مبيناً،وإذا كان نجيب محفوظ يفرد للبعد الجنسي في حياة أبطاله حيزاً جوهرياً فإنه لم يفعل ذلك بسبب رغبته في عكس الواقع بل لتأثره بالنظريات السائدة آنذاك في أوروبا-وأهمها الفرويدية-بل كانت له محاولة أجمع النقاد على إخفاقها لكتابة رواية كاملة موضوعها نفسي وهي رواية"السراب".

ما تم استعارته كان كل شيء،إن الحياة لغة مفرداتها هي الذات و الناس و الأشياء المحيطة ولها قواعد لربط هذه المفردات في كلام هي قواعد تعامل البشر مع ذواتهم ومع بعضهم ومع هذه الأشياء وقد استعار الأدب العربي الحديث الحياة-اللغة من الغرب فنحن نجد في الأدب المعاصر ليس الحياة-اللغة الخاصة بنا بل الحياة-اللغة المستوردة وهذا النقل ناتج عن الانبهار الاستلابي المطلق بحيث لم يعد الأديب راغباًً في غمار هذه الحالة في تذكر لغته الخاصة.وكما كنت في القسم الأول من هذا المقال أرى أن مفهوم "الاستلاب" هو المفهوم الذي يفسر تكوين الأيديولوجيا العربية المعاصرة ها أنا ذا هنا أرى أن الاستلاب هو الذي يفسر تشكل الأشكال الأدبية العربية المعاصرة وفي الحالتين تشكل أطروحة "التثاقف" وكما يرى العروي محقاً تفسيراً سطحياً زائفاً لبنية التعبير العربي المعاصر-بكافة أشكاله من فكر وأدب وفن.

ولكن الحل لمسألة تأصيل الأدب والفن بمعنى جعل الأشكال الأدبية معبراً عن المجتمع الذي ظهرت فيه لا يأتي فقط بالتوعية والتنظير والنقد-على أهمية كل هذا البالغة-ولكنه يأتي أساساً بانقلاب موازين القوى داخل المجتمع لصالح قوى المجتمع الأهلى وضد النخب المسيطرة المغتربة والمعزولة عن السكان.

هذا الانقلاب يشكل عند حدوثه النهاية الواقعية لعصر الاستلاب.قلت في أماكن أخرى أن المجتمع الأهلي منذ "عصر النهضة"هو ساكت أو أخرس فالتعبير العربي منذ ذلك العصر قد احتكرته تلك النخب المغتربة عن المجتمع التي تعبيراتها هي تعبيرات الذات المستلبة،تعبيرات لها حركة مزدوجة:موجبة تهدف إلى الاندماج بالمرجع الاستلابي وسالبة تهدف إلى نفي الذات الحقيقية والتملص منها ولنا أن نتوقع أن الأدب التأصيلي يقوم أيضاَ على أساس من حركتين متناقضتين مرتبطتين جدلياً:اجتثاث النزعة اللا شعورية للاندماج بالمرجع الاستلابي وإعادة اجتياف الذات الحقيقية.لا بد من إيقاف الانبهار الذي قد نعذر فيه نعيمة وشبلي شميل ولكننا ما عاد بإمكاننا بعد هذا الزمن أن نعذر فيه الأديب العربي الجديدهذا الجتثاث مسعى جوهري مرتبط بالحركة الأولى في العملية التأصيلية وإعادة الاعتبار لشعبنا ومفاهيمه وتجربته الحضارية سمة أساسية من سمات الحركة الثانية.



المراجع



[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][1] ياسين الحافظ –"الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة"-دار الحصاد للنشر والتوزيع –دمشق-الأعمال الكاملة (4)-ط2-ص46.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][2] عبد الله العروي- "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"-المركز الثقافي العربي الدار البيضاء-بيروت-1995 كافة الاستشهادات في هذا المقال هي من هذه الطبعة.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][3] وبالمناسبة، ومن باب "الشيء بالشيء يذكر"، لا ارى أن الدخول الواسع للكتابات الفلسفية المغربية التي جل عملها نسخ وتلخيص آخر صرعات الفلسفة الفرنسية ونقلها إلى الساحة العربية كان شيئاً إيجابياً من ناحية المضمون فما هو في نظري إلا تشجيع على مزيد من الاستلاب الثقافي ولكنه من ناحية تعزيز الروابط الثقافية بين جناحي الأمة إيجابي بلا شك.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][4] الدليل أنه يعرفه بهذا المعنى هو ذكره له مراراً في كتاب قديم أصدره قبل هذه "الصياغة الجديدة"لكتاب"الأيديولوجيا.." انظر:"العرب والفكر التاريخي"-المركز الثقافي العربي ودار التنوير-الدار البيضاء-بيروت-1983يقول مثلاًًًً"الاغتراب بمعنى التغريب أو التفرنج استلاب لكن الاعتراب –من العروبة-استلاب أكبر"ص207.وانظر لمفهومنا عن الاستلاب:محمد شاويش والدكتور حسين شاويش-"الحب والاستلاب –دراسات في علم الشخصية المستلبة-دار الكنوز الأدبية-بيروت— 1995لقد تغيرت وجهات نظر المؤلفين منذ تأليف الكتاب ولكن إيماني- وعلى حد علمي إيمان المؤلف الآخر أيضاً- بجوهر نظرية الاستلاب لم يزل موجوداً.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط][5] - التعبير"تلميحات" له،يستخدمه في الواقع لتبرير جملة من المقولات والمصادرات التي لا يسوق لها تبريراً كافياًً وأسلوب"التلميحات" له جذر في الفلسفة الفرنسية الجديدة التي تحولت بفضله إلى كتابات غامضة قابلة للتأويل المتعدد والمقلد العربي على عادته يفتح فمه انبهاراً بهذا الأسلوب ولا يخطر له ولا في المنام أن هذا الأسلوب فيه أشياء مشتركة مع أسلوب البهلوانات والنصابين-.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://raselaioun.yoo7.com
 
كيف انبنى التعبير العربي المعاصر؟
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى راس العيون  :: منتـدى العلــوم :: الأدب العربي-
انتقل الى: